«أيّام الجولان الثقافيّة»... بناء السرديّة الوطنيّة ومواجهة الأسرلة | حوار

من فعاليّات «أيّام الجولان الثقافيّة»

 

* الاحتلال استغلّ الأزمة السوريّة لأسرلة الجولانيّين.

* الهبّة الأخيرة عمّقت التقارب بين الجولانيّين وفلسطين.

* انكماش العمل الثقافيّ بعد عام 2011 أضرّ بالحالة الوطنيّة.

* مسؤوليّتنا الثقافيّة التأكيد على أنّ احتلال الجولان ليس مسألة منتهية.

* الهامش الثقافيّ المستقلّ حيّز للمقاومة.

 

في الثالث والعشرين من تمّوز (يوليو) الماضي، انطلقت فعاليّات الدورة الأولى من مهرجان «أيّام الجولان الثقافيّة»، وهي تظاهرة نظّمتها مؤسّسات مجتمع أهليّ؛ تهدف إلى تنشيط الحقل الثقافيّ الجولانيّ، والتحرّر من أجندات السلطات الاستعماريّة للدفاع عن الهويّة الثقافيّة الجولانيّة الأصلانيّة، الّتي تواجه تهديدات وجوديّة متصاعدة تتمثّل بسياسات الأسرلة المكثّفة من جهة، والمشاريع الاستيطانيّة التوسّعيّة من جهة أخرى.

في هذا الحوار الّذي نُجريه في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع وائل طربيه، الّذي اشتغل برفقة العديد من الناشطات والنشطاء من الجولان، على تنظيم فعاليّات المهرجان وتنفيذها، نتحدّث معه عن السياقات الفكريّة والثقافيّة والمجتمعيّة الّتي سبقت الدورة الأولى من «أيّام الجولان الثقافيّة» ورافقتها.

 

فُسْحَة: يأتي تنظيم مهرجان «أيّام الجولان الثقافيّة» بعد انقطاع نحو عشرة أعوام على آخر تظاهرة ثقافيّة في الجولان بتنظيم من المجتمع الأهليّ. لماذا الآن؟ وكيف أثّرت الأزمة السوريّة في المشهد الثقافيّ الجولانيّ في ظلّ سياسات الأسرلة المستمرّة؟

وائل: اللحظة الراهنة هي نتاج تراكم للتطوّرات والأحداث الّتي أدّت بنا إلى هنا، بداية من عام 2011 وأحداث الثورة السوريّة، الّتي كانت بمنزلة لحظة مركزيّة في تاريخ الجولان الحديث، والّتي أحدثت استقطابًا حادًّا غير مسبوق داخل المجتمع الجولانيّ. وكان للثورة السوريّة آثار مباشرة في المجتمع الجولانيّ، منها الاستقطاب السياسيّ، وبدايات مظاهر عنف داخل المجتمع الأهليّ، وكذلك الجمود الّذي أصاب الحقل الثقافيّ. كذلك كان انحياز معظم نشطاء الحقل الثقافيّ إلى مطالب الشعب السوريّ بالحرّيّة والديمقراطيّة، مؤثّرًا في نشاطهم الثقافيّ في الجولان، وفي مرحلة معيّنة كرّس هؤلاء جهودهم كلّيّة منذ بداية آذار 2011، للانخراط في ما يحدث في الساحة السوريّة. في الوقت نفسه، يبدو أنّنا تناسَينا جزئيًّا الدائرة الأقرب إلينا داخل الجولان، أو ربّما هول الكارثة السوريّة فرض على الجولانيّين تجاهل واقعهم الأقرب ومحيطهم الأضيق. هذا جزء من فهمنا لما حدث معنا خلال العقد الأخير، لكنّ هذا الاستقطاب تراجع مع مرور الزمن، ووقعت أحداث أخرى كان لها انعكاسات عميقة ومهمّة على الجولان، ربّما من أبرزها فرض انتخابات السلطات المحلّيّة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2018. تلك اللحظة، في اعتقادي، شكّلت صدمة وبداية العودة للالتفات إلى الواقع المحلّيّ وتحدّياته الّتي لا يجوز إهمالها، والاستغراق في الحدث السوريّ الّذي لا يزال مستمرًّا حتّى اليوم. فمنذ عام 2018، حتّى الآن، شعر جزء كبير من النشطاء بضرورة العودة إلى ما يحدث في الجولان، خاصّة في ظلّ تصاعد مشاريع الأسرلة، الّتي استغلّت الأزمة السوريّة والجولانيّة لتعزيز برامجها وتكثيفها؛ فالأزمة السوريّة اسْتُغِلَّت إسرائيليًّا للدفع ببرامج الأسرلة، الّتي تستهدف الشباب الجولانيّ لإقناعهم بالانتماء إلى دولة الاحتلال، وتناسي القضايا السياسيّة والصراع الجوهريّ مع البنية الاستعماريّة. بالمجمل، شعرنا بضرورة التحرّك على الأرض؛ ولذلك فالتخطيط للمهرجان لم يكن فجائيًّا، بل هو خلاصة أفكار طُرِحَت ونقاشات تُجْرى منذ سنوات؛ فثمّة اقتناع بضرورة ملء الفراغ الكبير في الحقل الثقافيّ الّذي كان يُمْلَأ بمباني القوّة القائمة، المتمثّلة بالدرجة الأولى بالسلطات المحلّيّة الّتي هي وكيلة لسلطات الاحتلال. لم يكن توقيت المهرجان مقرّرًا سلفًا، إنّما هي فكرة تدحرجت منذ ما قبل وباء كورونا، وبدأت بعمل أكثر تواضعًا وبإطار محدود، أُجِّلَ تنفيذه مرّات عدّة، حتّى أصبح التوقيت ملائمًا.

 

 

فُسْحَة: هل ثمّة علاقة بين التظاهرات الثقافيّة والأحداث السياسيّة الأخيرة في فلسطين، وبين مهرجان «أيّام الجولان الثقافيّة»؟

وائل: لا أعتقد أنّ العلاقة ميكانيكيّة ومباشرة مع الهبّة في الداخل المحتلّ، ولكن يوجد روابط معنويّة ورمزيّة أعمق من التوقيت الزمنيّ بين الهبّة والمهرجان، وذلك جزء من نضوج وعي جديد ربّما لا يزال غير مؤطّر داخل صيغ نهائيّة، لكنّه حاضر في مجال التفكير؛ فالتفكير في مستقبل الجولان القريب أو يوتوبيا العودة إلى الوطن الأمّ، أصبح أبعد ممّا كان عليه قبل عام 2011، على الأقلّ في مخيال الناس الشعبيّ أو لاوعي الجولانيّين. ثمّة حقائق صلبة على الأرض تقول إنّ إعادة قيام الكيان السياسيّ السوريّ وبناء الدولة، سيتطلّب سنوات طويلة جدًّا، وذلك يعني استمرار الاحتلال الإسرائيليّ للجولان لوقت طويل جدًّا. كذلك طبيعة الصراع والتحوّلات الّتي تجري على الأرض، تخلق تقاطعات أكبر وأوسع بين الجولان وفلسطين المحتلّة من النهر إلى البحر، بالمعنى الّذي أنتجته الهبّة الأخيرة، ولم يكن متداولًا من قبل. هذه الأفكار جزء من نضوج الوعي الجولانيّ بالذات، وبالصراع الّذي نعيشه، وبطبيعة المستعمر الصهيونيّ. دائمًا ما كانت فلسطين بوّابة الجولان على العالم منذ الأيّام الأولى للاحتلال، ومع ذلك، فالهبّة الأخيرة أوجدت تقاربًا أعمق بين الجولانيّين والفلسطينيّين، رغم محدوديّته على مستوى الممارسة، ورمزيّته من خلال وقفة تضامنيّة في أحد ميادين مجدل شمس، إلّا أنّ رمزيّته وأبعاده ستتّخذ مظاهر أكبر وأهمّ في الفترة القادمة.

 

فُسْحَة: كيف يؤثّر تطوّر الوعي الجولانيّ بصعوبة العودة إلى الوطن السوريّ في المنظور المتوسّط والقريب، في الهويّة الجمعيّة الجولانيّة وعلاقتها بالهويّة الفرعيّة الأصلانيّة الفلسطينيّة، والهويّة اليهوديّة الصهيونيّة المهيمنة؟

وائل: هذا سؤال مركّب، ومهمّ جدًّا، وثمّة غير مدخل للإجابة عنه، ولكن إن أردنا الخوض في المقاربة الهويّاتيّة فقد شهد الجولان منذ عام 2013، واستنادًا إلى الإحصاءات الرسميّة، ارتفاعًا في أعداد المتقدّمين للحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة. ولكن، ومنذ عام 2017، كان ثمّة تراجع في أعداد المتقدّمين. من المؤكّد استخدام إسرائيل للمَهْلَكَة السوريّة في سياساتها الموجّهة لأسرلة الجولان، إضافة إلى إعلانها لضمّ الجولان بشكل رسميّ عام 1981، الّذي لم يحظَ باعتراف رسميّ، باستثناء اعتراف الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب والولايات المتّحدة الأميركيّة. مع ذلك، يجب الاعتراف بأنّ ثمّة تيّارًا مصلحيًّا يفكّر بالجولان في إطار المصلحيّ الآنيّ الراهن، بينما ثمّة تيّار آخر يفكّر بالجولان في إطار مصلحتنا سكّانًا أصلانيّين على المدى البعيد. وثمّة غير عامل مؤثّر في علاقة الجولانيّين بدولة الاحتلال، ومدى استجابتهم لمشاريع الأسرلة والإدماج؛ أوّلًا، طبيعة الاستعمار الإسرائيليّ وحقيقة انزياحه الواضح نحو نظام أبارتهايد عنصريّ؛ وهو ما يصعّب من إمكانيّة نجاح مشاريع التطويع، الإخضاع، الإدماج أو الاندماج، لأنّ الوجه القبيح الّذي يتكشّف يومًا بعد الآخر يناقض مسار إدماج هذه المجموعة البشريّة – الجولانيّين – وقبولها، بوصفهم مواطنين لدولة إسرائيل. ثانيًا، ثمّة حقيقة لا يُفَكَّر فيها كثيرًا، وهي أنّه ولو افترضنا أنّ كلّ أهل الجولان قرّروا أن يصبحوا إسرائيليّين، فالجولان لن يصبح إسرائيليًّا؛ لأنّ سكّان الجولان يُقَدَّر عددهم بين نصف مليون و800 ألف سوريّ مهجّر، اقْتُلِعوا من أرضهم ونُسوا أو أُسْقِطوا من معظم الخطابات الرسميّة. حتّى الخطاب الرسميّ السوريّ يقصيهم ولا يتحدّث عنهم بوصفهم لاجئين مهجّرين، بل يعتبرهم نازحين، ومصطلح «النزوح» يستند إلى مبدأ خروجهم من أرض سوريّة إلى أرض سوريّة أخرى؛ ما ينفي عنهم صفة اللجوء. كلّ هذه التعابير التافهة أو المنطق التافه ينزع عنهم مظلوميّة هائلة جدًّا، ويستحقّونها بجدارة، أو ربّما علينا نحن البدء بتأكيد امتلاكنا حقّ عودة مماثل لحقّ عودة الشعب الفلسطينيّ.

 

فُسْحَة: كيف انعكست هذه الأفكار على أجندات المهرجان؟

وائل: المهرجان جاء نتاجًا لكلّ هذه الأفكار؛ فالمسألة الثقافيّة دائمًا ما كانت جزءًا أساسيًّا من نضالات أهل الجولان منذ بداية الاحتلال الإسرائيليّ. الحركة الوطنيّة أدركت منذ بداية الاحتلال أهمّيّة تعليم أبناء الجولان، كونه جزءًا أساسيًّا من مقاومة الاحتلال، وهذا ما دفعهم إلى فتح بوّابات التعليم في الاتّحاد السوفييتيّ وفي دمشق سابقًا. والآن، نرى أنّ انكماش العمل الثقافيّ مضرّ جدًّا بكلّ ما يتعلّق بالحفاظ على حالة وطنيّة، وإعادة تفعيله حاجة ضروريّة وليس رفاهيّة. ثانيًا، من الضروريّ الحفاظ على هذا الهامش الثقافيّ المستقلّ أمام غزو الأسرلة وتمتينه وتوسيعه. وثالثًا، باعتقادي، الثقافة حيّز يمكن فيه طرح أسئلتنا الثقافيّة ومناقشة كلّ صراعاتنا الأساسيّة بشكل نقديّ، يعبّر عن رغبة في بناء تراكم معرفيّ، وتحقيق حالة من مراجعة ونقد الذات، والتفكير في كلّ الأسئلة الممكنة، بدايةً من سؤال المشروع الوطنيّ عند أهل الجولان، وهو من أصعب الأسئلة اليوم. في سياق المهرجان يُعاد تنشيط هذا الحيّز، ومحاولة ألّا يكون تنشيطًا لمرّة واحدة، على أن يشكّل المهرجان بداية انطلاقة، حتّى لو متواضعة وصغيرة، لكنّها أساسيّة.

 

 

فُسْحَة: أين نجح المهرجان في خلق حالة جمعيّة وطنيّة؟ وأين واجه تحدّيات في خلقها؟

وائل: حتّى الآن، نحن لا ندّعي امتلاكنا لإجابات عن الأسئلة، ولكن لدينا رغبة في طرح الأسئلة الّتي كانت غائبة، ومنها سؤال دورنا كفنّانين ونشطاء في الحيّز العامّ. من الصعب تقييم المهرجان الآن، لكنّنا نحبّ سماع تقييمه من الناس الّذين شاركوا وحضروا. الأكثر أهمّيّة من التقييم أنّنا بدأنا بهذا المشروع، وذلك أكثر قيمة من المضمون في الوقت الحاليّ. لا نريد التكلّم عن تحقيق إنجازات أو حالة جمعيّة، لكنّنا نريد القول إنّ هذه هي مساعينا الحاليّة، وهي تتلخّص في رغبتنا في العمل مع الآخرين لبناء هذا التراكم المعرفيّ والثقافيّ؛ للوصول إلى حالة جمعيّة ورؤية للكيفيّة الّتي سنواجه بها تحدّيات حياتنا في الجولان. وهي تحدّيات تزداد صعوبة بفعل كلّ ما حدث في المنطقة، وتحديدًا الثورة السوريّة؛ وهو ما جعل سؤال المستقبل أكثر تعقيدًا وغموضًا من مجرّد اعتقاد أنّ الاحتلال مجرّد حالة مؤقّتة ستزول غدًا ونعود إلى الوطن، وهناك نحلّ مشاكلنا الداخليّة بين بعضنا بعضًا. الوضع أصبح مركّبًا ومعقّدًا أكثر من أيّ وقت مضى، وسؤال الثقافة بالنسبة إلى الجيل الشابّ أصبح أكثر إلحاحًا وضرورة. في الوقت الحاليّ نريد سماع تقييمات فرق العمل وشركائنا؛ لمحاولة الخروج بخلاصات أوّليّة تفيدنا في التخطيط للخطوة القادمة، كي نحسّن أداءنا في المستقبل.

 

فُسْحَة: لا بدّ من أنّ المهرجان كشف إشكاليّات موجودة أصلًا، سواءً كان ذلك عائدًا إلى غياب النشاط الثقافيّ خلال العقد الأخير، أو الاحتلال الإسرائيليّ للجولان المستمرّ منذ عام 1967؛ ما هذه الإشكاليّات على المستوى الثقافيّ، والمجتمعيّ، والسياسيّ؟

وائل: مرّة أخرى، من الصعب الإجابة عن سؤال يحاول قياس الواقع، فإجاباتنا هي انطباعات عن الواقع أكثر منها قياسًا له. تحرّكنا على الأرض كان مدفوعًا بفهم واضح لما نريد تحقيقه، وأحد أشكال هذا الفهم أنّ المهرجان للجولان ككلّ، لكلّ الجولان الأصلانيّ المتبقّي في قرى الجولان المحتلّة. وقد كشفت نسب المشاركة المنخفضة من بعض القرى عن أثر سياسات السلطات المحلّيّة، الّتي تشجّع على أن يكون لكلّ قرية أو بلدة مهرجاناتها الخاصّة وعملها الثقافيّ المستقلّ عن القرى الأخرى. بينما كانت الفكرة الّتي حاولنا التركيز عليها هي فكرة الجولان، وحدةً سياسيّةً بشريّةً متكاملة، وجزءًا من الشعب السوريّ، وجزءًا من أهل الجولان المهجّرين؛ فاحتلال الجولان هو أصلًا احتلال منسيّ ومُهْمَل، ولا يكون التركيز على الجولان بصفته أرضًا محتلّة بشكل واضح، كما يحصل التركيز على فلسطين أرضًا محتلّة، وهذه إحدى مهامّنا الأساسيّة، وهي إعادة تأكيد أنّ الجولان أرض محتلّة. هذه هي مهمّتنا ومهمّة النشطاء السياسيّين والثقافة، وهي تأكيد أنّ احتلال الجولان ليس مسألة منتهية، وأنّ الصراع من الممكن استمراره لعقود وعقود ستأتي. من واجبنا الإبقاء على هذا الصوت حيًّا، وتوسيع هذا الهامش الثقافيّ؛ لأنّ ثمّة حقائق كثيرة لا تخدمنا في صراعنا مع الاحتلال، كالحقيقة الديمغرافيّة؛ فالعدد البسيط من السوريّين المتبقّين في الجولان، والمتمثّل بـ27 ألف سوريّ مقابل 27 ألف مستوطن إسرائيليّ، بالإضافة إلى المشاريع الاستيطانيّة الّتي تسعى إلى استقدام 250 ألف مستوطن إلى الجولان بحلول عام 2048، في الذكرى المئويّة الأولى لإقامة دولة الاحتلال؛ هذا كلّه يعني أنّه لو تحقّقت هذه المشاريع الاستيطانيّة العملاقة على الأرض، لحوّلت السوريّين المتبقّين في الجولان إلى أقلّيّة عدديّة، مُهَدَّدة بالذوبان والامّحاء داخل مجتمع استيطانيّ عملاق. هذه الحقائق تنذر بأنّ تحدّيات الوجود في المستقبل ستكون أكثر تعقيدًا من تحدّيات الحاضر، وفي ظلّ برامج السيطرة والابتلاع والإدماج، يشكّل الهامش الثقافيّ المستقلّ حيّزًا للمقاومة. وهنا تكون مهمّة الثقافة إعادة بناء سرديّتنا الوطنيّة، وتجاوز الواجب الكلاسيكيّ بالحفاظ على الأرض والعرض، بل علينا المحافظة على هويّتنا وحتّى إعادة تشكيلها ثقافيًّا لتطوير طرق مقاومتنا، من خلال هامش الثقافة. كذلك علينا التفكير في طبيعة الحياة الّتي نريد أن نحياها، والتنبّه إلى أنّنا في القلب من صراع وجوديّ مع دولة الاحتلال، وفي مواجهة مشاريع استيطانيّة عملاقة دون أيّ حماية أو سند من الدولة السوريّة، وذلك شيء لا يتوقّع حدوثه في المستقبل القريب.

 

فُسْحَة: يمكن القول، إذن، إنّ الجولانيّين يعيشون اليوم واقعًا مشابهًا لواقع الفلسطينيّين في فلسطين المحتلّة عام 1948، وبدرجة أقلّ لواقع الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، من ناحية التشابه في واقع الاحتلال، وحجم التهديدات الوجوديّة الّتي تمثّلها المشاريع الاستيطانيّة وبرامج الأسرلة والإدماج. وهنا تصبح المقاومة الثقافيّة هي الحيّز/ الهامش الأوسع والأكثر تحرّرًا مقارنة بالحيّز السياسيّ أو المجتمعيّ، وذلك ما يدفع إلى التساؤل عن الروابط الممكن إنشاؤها بين الحيّز الثقافيّ الجولانيّ والحيّز الثقافيّ الفلسطينيّ؛ انطلاقًا من تشابه التجربة اليوميّة المعيشة، وكيف تجسّد في مهرجان «أيّام الجولان الثقافيّة»؟

وائل: أوّلًا يجب أن نكون واضحين مع أنفسنا؛ فالمهرجان لم يؤسّس لانقلاب وتحوّل في حياة الجولان الثقافيّة، بل هو عود على بدء. هو محاولة لإعادة تنشيط حالة ثقافيّة، كانت موجودة أصلًا قبل عقد من الآن، وغيابها يعود للأسباب الّتي نوقِشَت من قبل. اليوم، ومن خلال المهرجان، نحن نحاول العودة بإيقاع بطيء تدريجيّ لتحقيق هذه الحالة الثقافيّة مرّة أخرى. من المهمّ الانتباه إلى أنّ التواصل الأوّل بين السوريّين الجولانيّين وأهل فلسطين بعد عام 1967، قد حصل عبر الصداقات الّتي تكوّنت بين السجناء السياسيّين في السجون. أمّا اليوم فلم يعد هناك حركة أسيرة في الجولان كما كان الأمر في الماضي، ولكنّ الأواصر الثقافيّة موجودة مع الساحة الفلسطينيّة، وكانت نشطة جدًّا في السابق على مستويات مختلفة. أحدها أنّ الفنّانين الجولانيّين هم الوحيدون الّذين يشاركون في مسابقة الفنّان الشابّ، الّتي تنظّمها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» من غير الفلسطينيّين؛ بمعنى أنّ الجولانيّين اعْتُبِروا فلسطينيّين، ويشاركون في هذه المسابقة منذ سنوات عدّة. توجد مشاركات متنوّعة أيضًا لفنّانين جولانيّين تشكيليّين في المعارض الفلسطينيّة، وتعاون موسيقيّ، ومن قبل كان هناك نشاط مسرحيّ متبادل مع المسرح الفلسطينيّ. إذن، حتّى قبل عشر سنوات من الآن، كان التعاون الثقافيّ بين الجولان وفلسطين في أوجه حتّى عام 2011، الّذي أحدث شرخًا في الحياة الثقافيّة.

 

 

فُسْحَة: إذن، الأزمة السوريّة، بداية من عام 2011، أثّرت حتّى في علاقة الفلسطينيّين بالجولانيّين؟

وائل: لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بشكل دقيق، ولكنّها أثّرت في مجمل الفاعليّة الثقافيّة في الجولان، وأحدثت تقلّصًا واضحًا على مستوى النشاط الثقافيّ. لكنّ التعاون كان دائمًا موجودًا، بداية من المشاريع المشتركة مع «مؤسّسة عبد المحسن القطّان»، و«مركز خليل السكاكيني»، وكذلك المهرجان العملاق الّذي أقيم عام 2008 في كلٍّ من فلسطين والجولان. في ذلك المهرجان جلبنا المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ بأكمله إلى الجولان. وفي أحد العروض الخاصّة بـ «فرقة الفنون الشعبيّة»، حضر ما يقارب العشرة بالمئة من سكّان الجولان. إذن، ثمّة تاريخ طويل من العمل الثقافيّ المشترك، وهو ما يجعل الحضور الفلسطينيّ الأخير في مهرجان «أيّام الجولان الثقافيّة» طبيعيًّا وليس مستغربًا على الإطلاق. أعتقد أنّ الجولان جزء من المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ، والحيّز الثقافيّ الفلسطينيّ هو الساحة الأكثر أمانًا بالنسبة إلى الفنّانين الجولانيّين. هي الساحة الأكثر محبّة وتعاطفًا وتفهّمًا للجولانيّين، وفي رأيي، هي الساحة الّتي تشكّل درعًا أو بديلًا عن الانغماس في الساحات الإسرائيليّة المركّبة من التطبيع والإخضاع؛ فالفنّان الجولانيّ لا يخضع للابتزاز السياسيّ والثقافيّ في فلسطين كما يخضع له عند تجريبه العمل في إسرائيل؛ لذلك تشكّل هذه الساحة الفلسطينيّة جزءًا من البيت الدافئ، الّذي يعيش فيه الجولانيّون بكلّ محبّة وترحيب.

 

فُسْحَة: عند الحديث عن الإدراك بأنّ المشروع الوطنيّ المرتبط بالكيان السياسيّ السوريّ لم يعد ممكنًا الآن، هل تظهر تخوّفات من تكرار تجربة توجّه الكنيست الإسرائيليّ، الّتي قد تشكّل مقدّمة لذوبان الهويّة الجولانيّة السوريّة الأصلانيّة، داخل مركّبات المجتمع الاستعماريّ الإسرائيليّ؟

وائل: هذا هو السيناريو الّذي نحاول تجنّبه، فحتّى في فلسطين ثمّة بدائل ممكنة للكنيست، تتمثّل بإمكانيّة بناء المجتمع الفلسطينيّ على أسس الاستقلال النسبيّ الداخليّ، وخارج لعبة الديمقراطيّة الإسرائيليّة المزيّفة، وشخصيًّا أفضّل هذا التوجّه فلسفيًّا. من المؤكّد أنّ في الجولان تيّارًا مصلحيًّا انتهازيًّا وسلطويًّا منتفعًا من الترابط بالبنى الاستعماريّة، ولكنّ هذا النهج التلفيقيّ – وهو تلفيقيّ لأنّه يتجاهل ويلتفّ على حقائق الواقع – يتناقض بشكل بنيويّ مع واقع أهل الجولان، الّذين حتّى اللحظة ثمّة 80% منهم ليسوا مواطنين في دولة إسرائيل. إنّ كلّ الادّعاءات الّتي تهوّل وتدّعي أنّ الجولانيّين يندفعون ليصبحوا إسرائيليّين هي ادّعاءات مضلّلة وغير حقيقيّة، والأرقام تُظْهِر ذلك. هذا الصراع بين التيّار المؤيّد للاندماج في المنظومة الاستعماريّة، والتيّار الداعي إلى تحقيق حالة وطنيّة جولانيّة مستقلّة، هو صراع مركزيّ في الجولان، ومن المهمّ التفكير في كيفيّة حلّ هذا الصراع، وإيجاد الحلول لإدارة حياتنا في ظلّ هذه البنية المركّبة والمعقّدة هويّاتيًّا وسياسيًّا. يجب التفكير في موقفنا الأخلاقيّ من دولة الاستعمار، وموقفنا الأخلاقيّ من جرائم الإسرائيليّين تجاه الشعب الفلسطينيّ؛ فلا يمكن التسامح مع التوجّه الانتهازيّ القائل بأنّ ثمّة مجموعة بشريّة قليلة العدد – الجولانيّين – تتلقّى معاملة حسنة من الدولة الّتي هي في الآن ذاته مجرمة، وتمارس القتل اليوميّ بالإخوة على بعد كيلومترات قليلة من الجولان. ثمّة تناقض أخلاقيّ عميق هنا، ولا يجوز الهرب من هذه الأسئلة الصعبة، ولكنّي لا أعتقد أنّ هذا السيناريو الأسود سيصل إلى الجولان، لا أعتقد أنّ نموذج «القائمة الموحّدة» سيصل إلى الجولان.

 

 


أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.